عرّافة الرمال لجاسم الصحيّح
تعد قصيدة «سيرةٌ إنسانيَّةٌ للرِّمال» للشاعر السعودي جاسم الصحيّح واحدة من أبرز الأعمال الأدبية، ليس في منجز الصحيّح فحسب، بل وفي الشعر العربي الحديث. تعكس القصيدة بعمقها وثرائها التعبيري قوة الشاعر في نقل المشاعر والأفكار المتعددة بأسلوب شعري راقٍ ومؤثر. يلامس الصحيّح قلوب القراء من خلال استخدامه للصور الذهنية المتنوعة والمبدعة، ويثير فيهم مشاعر الانتماء والفخر والحب للوطن، لتحتل هذه القصيدة مكانة مرموقة في الأدب العربي بفضل عمقها الفني، وقدرتها على التعبير عن التحديات والصمود والتفاني في خدمة الوطن.
أولا: أهمية القصيدة الفنية
1.التعبير عن الوطن
فتعد القصيدة لوحة فنية تعبر عن حب الوطن والتفاني من أجله، إذ قدّم الشاعر صورة مدهشة للوطن ككيان حي ينبض بالحياة، يواجه التحديات ويصنع المجد. في هذا السياق، يعبر الشاعر عن الوطن بكلمات ملهمة:
«فتَجَلَّى في مداها وَطَنٌ
يُلْهِمُ الحاضِرَ أنْ يغدو حَضَارَةْ»..
كما يشبّه الشاعر الوطن بالبحر، الذي يحتوي على حيتان كثيرة دون أن تُفسد محاره، مما يعكس غنى الوطن وتنوعه مع الحفاظ على نقائه وجوهره:
«وَطَنٌ كالبحرِ في سِيرتِهِ..
كثرةُ الحيتانِ لم تُفسِدْ مَحَارَهْ!»
2. الصور الذهنية المبتكرة
يعكس تشبيه النهارات بخيول مستثارة والليالي كغارات متتابعة، حركة الزمن والتحديات المستمرة، مما يُضفي على القصيدة ديناميكية وقوة تعبيرية:
«النهاراتُ خيولٌ مُسْتَثارَةْ
والليالي غارةٌ تتبعُ غارَةْ»..
كما يُضيف استخدام الشاعر لصورة الرّمال بعدًا فلسفيًا للقصيدة، وذلك بوصف الرّمال عرّافة تقرأ الوقت وتستجلي مداره، إذ تصبح الطبيعة جزءًا من حكاية الإنسان وتاريخه:
«والرمالُ ابْتَدَأَتْ عَرَّافَةً
تقرأُ الوقتَ وتستجلي مَدارَهْ»..
3. الجمال الأسلوبي
تتميز القصيدة بلغة شعرية رصينة وموسيقى داخلية متناغمة، مما يعكس براعة الشاعر في استخدام اللغة العربية وتطويعها لتناسب موضوع القصيدة:
«وطني.. إنَّ رصيدًا من هَوًى
عاشَهُ الأجدادُ، ضَاعَفْنَا ادِّخارَهْ»..
ويستخدم الشاعر التكرار بشكل فني يعزز من تأثير القصيدة على المستمع والقارئ، مما يجعلها أكثر تذكرًا وتأثيرًا:
«كلَّما اصْفَرَّ المدى لاذَ بنا
فـهَزَزْنَاهُ وأَسْقَطْنَا اصفرارَهْ»..
ثانيا: الأهمية الأدبية للقصيدة:
1. التعبير عن الهوية والانتماء
يبرز الشاعر الهويّة الثقافية والجغرافيّة للوطن، من خلال استخدام الصور التي تمثل الصحراء والرمال والنخيل، مما يعزز من إحساس الانتماء لدى القراء:
بيننا يسعَى غرامٌ زاجلٌ
في سقوفِ النخلِ رَبَّينَا هَزارَهْ..
كما يشير الشاعر إلى تضحيات الأجداد وبطولاتهم، مما يزيد ارتباط الحاضر بالماضي ويخلق جسراً من الفخر والتواصل بين الأجيال:
في ثراهُ انْصَهَرَتْ أزمنةٌ
مِنْ رجالٍ رَوَّضُوا قلبَ الحجارَةْ..
2. الدلالات الرمزية
ترمز الرمال والبراري في القصيدة إلى الصمود والتحدي، حيث تتحول الصحراء القاسية إلى مصدر إلهام وعطاء بفضل تضحيات الإنسان وجهوده:
الرمالُ احْتَرَقَتْ فائْتَلَقَتْ
فإذا الصحراءُ تزدادُ نَضَارَةْ..
ويعكس التوتر بين الخوف والسلام وكيف يمكن للإيمان أن يجلب الطمأنينة، مما يضفي على القصيدة بعدًا روحانيًا وفلسفيًا:
وَطَنٌ سَهَّدَهُ الخوفُ، وما
نامَ حتَّى سَكَنَ اللهُ جوارَهْ..
3. التفاعل مع القارئ
يضفي استخدام بحر الكامل على القصيدة إيقاعًا موسيقيًا جذابًا يسهل حفظها وترديدها، مما يجعلها أكثر قربًا من قلوب القراء:
نحنُ لم نرفعْ شِعارًا، إنَّما
رَفَعَ اللهُ بأيدينا شِعارَهْ..
وتنجح القصيدة في إثارة مشاعر متنوعة لدى القارئ، من الفخر والانتماء إلى التأمل والحنين، مما يجعلها تجربة شعرية غنية ومؤثرة:
كوكبٌ من لهفةٍ وَحَّدَنَا..
كوكبٌ.. لا كَتَبَ اللهُ انشطارَهْ!
ثالثاً: الصور الذهنية وأدوارها وقيمها في القصيدة
1. «النهاراتُ خيولٌ مُستثارة»
فالصورة الذهنية هنا تعبر عن الحركة المستمرة والنشاط الدؤوب، بما يعزز قيمة العمل الجاد، الحيوية، والمثابرة.
2. «والليالي غارة تتبع غارة»
فالصورة الذهنية تعبر عن التحديات والمصاعب التي تأتي تباعاً. لتحقق قيم الصبر، القوة في مواجهة الصعاب، والاستعداد الدائم.
3. «والبراري دفتر من وهج»
فالصورة الذهنية تمثل البيئة الصعبة التي تُكتب فيها حكايات الشجاعة والنضال، مما تعزّز قيم التضحية، الشجاعة، وتسجيل التاريخ البطولي.
4. «والرمالُ ابْتَدَأَتْ عَرَّافَةً
تقرأُ الوقتَ وتستجلي مَدارَهْ»..
فالرمال كعرافة تقرأ الوقت، لتمثل الحكمة والمعرفة المتجذرة في الطبيعة، محققة قيم الحكمة، الفطنة، والقدرة على التنبؤ بالمستقبل.
5. «وَطَنٌ كالبحرِ في سِيرتِهِ..
كثرةُ الحيتانِ لم تُفسِدْ مَحَارَهْ!»..
رسمت الصورة الذهنية الوطن كالبحر، تعبيرا عن غنى الوطن وتنوعه، مع الحفاظ على نقائه وجوهره، مما تضفي قيم الوفرة، الاستمرارية، والتناغم بين التنوع والوحدة.
6. «وَطَنٌ كالشِّعرِ إلَّا أَنَّهُ
لم يَجِيء من كُوَّةِ الغيبِ (استعارَةْ)»
فالوطن كالشعر، بما يشير إلى الإلهام والجمال الذي ينبع من الوطن، لترفل في ظلها قيم الإبداع، الجمال، والإلهام.
7. «وَطَنٌ سَهَّدَهُ الخوفُ، وما
نامَ حتَّى سَكَنَ اللهُ جواره»
إذ يسهد الوطن بالخوف حتى يُسْكِن الله جواره، وقد يعكس التداخل بين الخوف والأمان المستمد من الإيمان، مظهرة قيم الإيمان، السلام الداخلي، والتوكل على الله.
8. «في ثراهُ انْصَهَرَتْ أزمنةٌ
مِنْ رجالٍ رَوَّضُوا قلبَ الحجارَةْ»
انصهرت في ثرى الوطن أزمنة الرجال الذين روضوا قلب الحجارة، بما يمثّل القوة والعزم في مواجهة التحديات، عبر قيم الشجاعة، الصمود، والإرادة الصلبة.
9. «الرمالُ احْتَرَقَتْ فائْتَلَقَتْ
فإذا الصحراءُ تزدادُ نَضَارَةْ»
تحمل الصورة الذهنية هنا مقابلة بلاغية، فالرمال التي احترقت، زادت القفر نضارةن بما تفيد التجدد والنهوض من جديد بعد الصعاب، مرددة قيم التجدد، الأمل، والتفاؤل.
10. «إِنَّما التَّمرُ لنا (تأشيرةٌ)
ولنا النخلةُ في الدنيا (سفارَةْ)»..
ترسم الصورة الذهنية التمر تأشيرةً والنخلة سِفارةً، تمثيلا بليغا عن التراث والهوية الثقافية الراسخة، وأهمية العطاء المستمر للوجود.
11. «أيُّها الأجدادُ.. طيبوا خاطرًا..
ذلك السندسُ ما خانَ اخضرارَهْ!»..
تعبّر صورة الأجداد والسندس الذي لم يخن اخضراره، عن الاستمرارية والثبات في القيم والمبادئ، بما توظّفت به قيم الوفاء، الثبات، والتراث المستمر.
الخلاصة
قصيدة «سيرةٌ إنسانيَّةٌ للرِّمال» لجاسم الصحيح تعد من أبرز الأعمال الشعرية التي تعكس حب الوطن والارتباط بالأرض والهوية. من خلال الصور الذهنية المبتكرة واللغة الشعرية الراقية، يقدم الشاعر لوحة فنية تعبر عن التحديات والصمود والتفاني في خدمة الوطن. هذه القصيدة ليست مجرد عمل شعري بل هي تجربة شعورية عميقة تلامس القلوب وتثير مشاعر الفخر والانتماء لدى كل من يقرأها. باستخدام الصور الذهنية المتنوعة، يعبر الشاعر عن الأمل، التجدد، الوحدة، والقيم الروحية والاجتماعية التي تجعل القصيدة تجربة فريدة ومؤثرة.
تعد قصيدة «سيرةٌ إنسانيَّةٌ للرِّمال» للشاعر السعودي جاسم الصحيّح واحدة من أبرز الأعمال الأدبية، ليس في منجز Read More
إرسال التعليق